يعد الموت هاجسًا أزليًا يؤرق الإنسان، فبين الرغبة اللانهائية بعيش الحياة والتطلع للمستقبل وبين الوعي بحتمية الموت يظل الإنسان مُعلقًا.
وفي كتابه «إنكار الموت» الصادر عام 1973 يقدم إرنست بيكر مفهومًا مغايرًا تجاه الموت فيرى بأن خوف الإنسان من الموت هو المحرك- والدافع الحقيقي -الذي يحثه على القيام بالأشياء على مدار حياته، وعلى عكس فرويد الذي رأى بأن دافع الإنسان للحياة هو الغريزة الجنسية وبأن مشكلات الإنسان وعُصابِه ناتجان من كبتها - يرى بيكر أن المحرك الحقيقي للإنسان هو خوفه من الموت. ولذلك نرى بيكر يقول في الفصل الثاني من كتابه «من بين كل الأشياء التي تحرك الإنسان فإن أحد الدوافع الرئيسية هو ذعر الموت»، ويستدل على ذلك بالعودة للطفولة عند صدمة الطفل ووعيه بحتمية الموت، والذي يظل هاجسًا لديه طوال عمره.
كما يشير إلى الحل في استعانته بمقال للمحلل النفسي غريغوري زيلبورج والذي يقول بأن الموت هو شيء حتمي، وأن إنكاره وتجاهله بشكل كلي لن يفضي إلى شيء، بل سيفضي إلى الكبت والعصاب، كما أن التفكير المستمر فيه سيؤدي لتعطيل حياة الإنسان، إذن الحل ببساطة يكمن في استيعاب تلك الحتمية ومن ثم تقبلها، هنا ينفتح الإنسان على عالم أرحب، وبذلك يتفق بيكر مع دولوز وجاتاري - اللذان لم يتفقا مع فرويد كثيرًا هما أيضًا، فقالا بأن كل فعل ينطوي على غريزة أو دافع ما، هو بشكل ما يعد ماكينة أي فعل له دلالة على الاستمرارية لغرض ما- وبالتبعية فهو يقود لآخر، وهو ما يعد أمرًا محمودًا كما يعبر دولوز، وبذلك يكون الخوف من الموت هو خوف إيجابي، لأنه يفضي في الأخير لعمل شيء ما، يدعم تدفق الحياة واستمراريتها.
وبالذهاب إلى تاريخ السينما - والعودة قليلًا لبداياتها - تحديدًا بدايات القرن العشرين - نرى تمثل لتلك الفكرة وتأصيلًا لها عند المخرج السويدي فيكتور سيستروم في فيلمه «عربة الأشباح» الصادر عام 1921.
مشهد من فيلم «عربة الأشباح»
يحكي الفيلم عن رجل عربيد يوقن باقتراب موته عبر نبوءة، وحين يموت فعلًا ويكتشف كم كان مؤذيًا لكل من حوله في السابق يأمل الرجوع وتصحيح تلك الأخطاء. وفي الفيلم نلحظ وعي كبير ومسبق لدى سيستروم بفكرة أن الخوف من الموت قد يكون هو الدافع الوحيد لتغير إنسان للنقيض تمامًا. ومن هنا يلحظ الميل الوجودي الذي تميز به فيلم سيستروم في مرحلة مبكرة من تاريخ السينما، رغم ما يظهره من قتامة في تجربته، ليظهر ذلك الأثر عند بيرجمان- الذي يعد سيستروم بمثابة أستاذ له فيما بعد…
نرى تلك الفكرة امتدت حتى للسينما المصرية وتمثلت في فيلم «بابا أمين» وهو الفيلم الأول للمخرج يوسف شاهين والصادر عام 1950
مشهد من فيلم «بابا أمين»، في الصورة (حسين رياض بطل الفليم، وفاتن حمامة وماري منيب والطفل عصام)
نرى أمين (حسين رياض) الذي يتوهم بموته بعد انشغاله بجمع الأموال فيرى بعد موته بأنه قد وضع أسرته في أزمات متتالية، ليصحو أمين في النهاية وقد قرر التخلي عن هاجسه في جمع المال والاهتمام بأسرته عوضًا عن ذلك، وهي فكرة أشار لها بيكر بقوله:
يبدو ذعر الموت هو من صنيعة المجتمع وفي الوقت نفسه يستخدمه هذا المجتمع ضد الأفراد لإبقائهم في حالة خضوع كما يقول مولوني: «آلية ثقافية للهيمنة».
هنا نلحظ أن تخوف أمين من الموت هو نابع من شعوره بأنه ليس آمنًا كفاية وهو وأسرته من الناحية المادية، وذلك ما يجعل من الموت هاجسًا عنده حتى وصوله للتخيل بأنه قد مات.
وتلك الفكرة نجد صداها عند كيركيجارد أيضًا، والذي يرى بأن الإنسان وأمام حتمية الموت ينقسم إلى ثلاثة أنماط: مغيب، متمرد، ومؤمن. فنجد أن أمين في فيلم يوسف شاهين ينتمي إلى النوع الأول، والذي يكتشف أن محاولاته المستمرة لإنكاره الموت لن تفيده عند لحظة ما، وبأنه لا مفر من مواجهته، وتستمر الفكرة نفسها وتظهر أكثر في فيلم «لكي أعيش»، الصادر عام 1952 للمخرج الياباني أكيرا كوروساوا المأخوذ عن قصة تولستوي «موت إيفان إيليتش»، والتي ترصد الأيام الأخيرة في حياة إيفان قبيل موته وندمه على حياته الماضية.
قصة تولستوي تشير إلى ذلك النوع من المواجهة الحتمية بين الإنسان والموت كما تؤطر بشدة موقف الإنسان من تلك المواجهة، تحديدًا «المغيب» في وصف كيركيجارد، والذي لا يعي بحتمية الموت إلا عند حدوث أزمة ما محورية في حياته، وعلى عكس اختيار تولستوي الذي يختار بقسوة الموت لبطله بعد وعيه ببؤس حياته، يختار كيروساوا لبطله المقاومة، فيحاول بشكل أخير تصحيح مسار حياته ويعي بقيمة ترك الأثر بعد الفناء وذلك ما يفضي به إلى تقبل مصيره بكل رضا في النهاية.
الملصق الدعائي لفيلم «لكي أعيش - IKIRU»
بعد ذلك، وفي العام 1957 يصدر للمخرج السويدي انجمار بيرجمان فيلمان وهما «الختم السابع» و«الفراولة البرية». يجمع الفيلمان موضوعًا واحدًا وهو الموت. وليست صدفة أن يكون بطل فيلم «الفراولة البرية» هو المخرج السويدي فيكتور سيستروم، والذي كان بطلًا لفيلمه «عربة الأشباح» أيضًا، فالموضوع مشترك وهو هاجس الموت، كما يتضح تأثر بيرجمان بفيلم سيستروم حتى في تصميمه لشكل العربة التي تهاجم بطل الفيلم في المشهد الافتتاحي.
فيلمان عن نفس الموضوع، وهو الموت، ويصدران في نفس العام يشير بالطبع لمدى سيطرة فكرة الموت على عقل ووجدان بيرجمان، ولذلك ففي كل فيلم منهما يطرح بيرجمان مفهومًا مغايرًا عن الموت وكيفية مواجهته، ربما هي طريقة للتخلص من ذلك الهاجس إلى الأبد، أيضًا يعد كثير من النقاد تلك السنة هي البداية التأسيسية لأسلوب بيرجمان وفلسفته التي ستمتد إلى ما يقرب من خمسين عامًا بعدها.
وفي فيلمه «الفراولة البرية» نكتشف رؤية بيرجمان للموت، فمن الوهلة الأولى – وعن طريق حلم للبطل – نعرف بأن هاجس البطل هو الخوف من الموت نتيجة تقدمه في السن. إن فعل المقاومة الذي يختاره البطل لا يكمن في بحثه عن الأسئلة الكبرى - كالفارس كما سنرى في «الختم السابع» - ولا يتعلق بالموت بقدر ما يتعلق بالحياة، ونتيجة لذلك الوعي يبدأ البطل في النبش في ذكرياته الخاصة وماضيه، ليصل إلى منبع خوفه الشديد من الموت فيجد أنه لم يعش حياته كما يجب ولم يرض كثيرًا عن نفسه، ليصل لنتيجة مفادها أنه لن يتقبل الموت بصدر رحب إلا حين تقبله الأولي لحياته، وهذا الوعي يفضي به إلى رؤية ما مضي من حياته بصورة مغايرة ورقيقة، فيفضي به ذلك إلى تقبل الموت- ذلك المصير المحتوم برضا وتقبل.
وفي فيلم «الختم السابع» نرى تمثلًا لصورة الموت، أو بشكل أدق ملاك الموت كما يتصوره بيرجمان: رجل يرتدي قناعًا مخيفًا بتعبيرات قاسية ونبرة صوت حادة، كما يرتدي عباءة سوداء كبيرة.
مشهد من فيلم «الختم السابع - The Seventh Seal»
إن تلك الصورة الذهنية عن الموت لا تشير فقط لكونه هاجسًا، بل تشير إلى مدى كره بيرجمان لفكرة الموت، وهذا ما يفسر ظهوره للفارس في الفيلم - والمهتم بفكرة البحث عن المعنى في الحياة - على تلك الشاكلة المنفرة.
ويتكرر ظهور ملاك الموت للفارس عدة مرات في الفيلم - في إشارة لمدى هيمنة فكرة الموت على عقل الفارس - وكونها معيقة له عن هدفه السامي، ومن خلال النهاية التي يختارها بيرجمان لفيلمه حيث نرى شخصيات الحكاية يقومون برقصة يسميها بيرجمان برقصة الموت، يتبين مدى اقتناعه بحتمية الموت ومدى تسليمه الانهزامي لتلك الفكرة فيتعلق الأمر بالموت هنا أكثر.
وفيما يتعلق ببيرجمان فللمخرج الأمريكي وودي ألن تصريح سابق يقول:
عندما جلست لتناول العشاء مع بيرجمان شعرت بأنني عامل طلاء يجلس مع بيكاسو
وتمتاز سينما وودي بنفس الحس الساخر في مقولته تلك، فبرغم إعجابه ببيرجمان ووصفه في فيلم «مانهاتن» بأنه العبقري الوحيد في السينما اليوم يكون هو نفسه الشخص الذي يسخر من سينما بيرجمان ويرى الجانب الفكاهي من تلك القتامة، فيظهر ذلك بشدة في فيلمه «الحب والموت» الصادر عام 1975 والذي يصور فيه الموت على أنه شخص يرتدي عباءة بيضاء كبيرة وفي يده نصل ولكنه ليس مخيف إطلاقًا بل يظهر في مشهد هزلي بينما يؤدي رقصة مع وودي.
مشهد من فيلم «الحب والموت» (1975)
ولا يعد الأمر مقتصرًا على مجرد سخرية عابرة وهزلية، فذلك ما يتفق مع فكر وجوهر سينما وودي، وهي النظرة العبثية المُفكِكة للمعاني الكبرى، التي تؤكد على انتماء وودي لمدرسة ما بعد الحداثة مما يفسر لجوئه للـ بارودي أي السخرية من الموت.
بعد ذلك نرى تصورًا مغايرًا عن ملاك الموت عند بوب فوسي في فيلمه «كل هذا الجاز» الصادر عام 1979. ففي الفيلم نرى صورة نقيضة تمامًا للصورة التي ظهر بها ملاك الموت في فيلم بيرجمان «الختم السابع»، فتلك الصورة الخشنة للموت تتبدل لصورة معاكسة تمامًا؛ من رجل بوجه صارم وعباءة سوداء كبيرة لسيدة جميلة ترتدي فستانًا أبيضًا تسمى أنجليكا، ومن وجود مشتت فور ظهوره إلى وجود ملهم ومطمئن.
جيسيكا لانج في دور أنجليكا (ملاك الموت) في فيلم (1979) «كل هذا الجاز - All That Jazz»
وكما هو واضح ففيلم فوسي هو امتداد بشكل كبير لفيلم «ثمانية ونصف» لـ فيلليني، فبالإضافة لتقاطع الموضوع يتشابه البطلان في كثير من السمات الشخصية، وكما تكون المرأة ملهمة في فيلم فيلليني فهي بالمثل تصبح عند فوسي. ولذلك في منتصف الفيلم تسأل أنجليكا (جوي) مخرج العرض عن الحب فيجيبها بأنه لا يدرك معناه، فقط هو يعرف كيف يقول الكلمة.
اقتباس من مشهد فيلم «كل هذا الجاز - All That Jazz»
وتلك هي نفسها الجملة التي واجهت بها كلاوديا المخرج جويدو في فيلم فيلليني بأنه لا يجيد الحب وتلك هي أزمته.
من فيلم «ثمانية ونصف»، إخراج: فيديريكو فيلليني
إذن فالأزمة تصبح أزمة معنى، والحل يكمن في مدى وعي البطل بالمفردات والأشياء المحيطة به، والتي من خلال إعادة تفكيكها والنظر فيها يصل للإبداع -عند فيلليني- أو كما عند فوسيه يجيئ الإبداع مرافقًا للموت،
فنرى في نهاية الفيلم جوي يتجه ناحية أنجليكا ليبدو حينها الموت كطقس احتفالي، عُرس؛ حيث ينتقل البطل من عالمه الضيق/ الواقع، إلى المتخيل- الأبدي- برفقة موسيقاه- فيصبح الموت أشبه بحلم طويل ممتد ولا نهائي.
جيسيكا لانج في دور أنجليكا، ملاك الموت في فيلم (1979) «كل هذا الجاز - All That Jazz»
وهي صورة في مجملها تحتفي بالموت. هنا يتعلق الأمر كله بالمصالحة؛ المصالحة مع الحياة في البدء، قبل أن تكون مصالحة مع الموت. وهنا يكمن إبداع جوي الخاص الذي يساوي نجاح عرضه الاستعراضي. ويصبح الأمر في صورته النهائية محاولة للاتحاد مع الموت بدلًا من نبذه وإنكاره.
صورة مختلفة كليًا عن ملاك الموت يطرحها المخرج فيم فيندرز في فيلمه «أجنحة الرغبة» الصادر عام 1987.
الملصق الدعائي لفيلم «أجنحة الرغبة»
في فيلم فيندرز يقترب الملاك أكثر من كونه إنسانيًا، ملاك بصفات بشرية، فهو مساق بنزعة تأملية تجاه الحياة والبشر، تلك المرة نرى الأمر من منظور ملاك الموت، والذي يبدو عاديًا جدًا، فهو ليس بقسوة ملاك بيرجمان، ولا ملهم كما نرى في رواية بوب فوسي، ولا حتى مرحًا كما يصوره وودي ألن.
هنا ملاك الموت هو من يعاني من أزمة وجوده، فهو يرى الحياة مكان مليئ بالحزن، رغم ذلك فهو يراها كهبة يتمتع بها البشر، ولذلك فهو يغبطهم على التمتع بتلك الحياة ومشاعرهم الإنسانية كما يرفض السماء، إذن فتلك الرغبة تنطوي على انتماء عميق للأرض وحب وتقدير كبيرين لتلك الحياة المليئة بالمعاني، كالحب، وهو القيمة السامية التي تتجلى في فيلم فيندرز.
إن حب ملاك الموت لـ ماريون المرأة على الأرض يتماس مع رواية «انقطاعات الموت» لساراماجو، فملاك الموت يتم تقديمه بصورة شاعرية تمامًا، حتى أنه يتخلى عن وظيفته المتمثلة في أخذ الأرواح ويتفرغ لحب امرأة، فيبدو التماهي مع الموت، استيعابه وتقبله منطوي على إيمان عميق بالحياة، فالحب الذي لا ينتهي لكل ما فيها يصبح السبيل الوحيد للتغلب على ذعر الموت.
إن ذلك الحب، ذلك التقبل وتلك الرغبة اللانهائية في الحياة تتجلى في فيلم «جنة الشياطين» الصادر عام 1999 للمخرج أسامة فوزي ومن كتابة مصطفى ذكري، وهو مستوحى من رواية «ميتتان لرجل واحد» لجورجي أمادو، وعلى نقيض الصورة الانهزامية المسبقة - الممتدة في السينما المصرية تجاه الموت، والتى تجسدت مثلًا في فيلم «السقا مات» لصلاح أبو سيف.
نرى طبل (محمود حميدة) وقد ترك حياته كموظف وقرر التصعلك في الشوارع وهو تمرد أولي، ويستمر ذلك التمرد ويتعاظم حتى يصير تمردًا على الموت نفسه، فبعد موت طبل لا يتوقف عن كونه فاعلًا في الحياة، فيصطحبه أصدقاؤه في جولاتهم الليلية ويكون مشاركًا معهم رغم موته، متفاعلًا ومؤثرًا في الأحداث، وهنا تتجلى إرادة العيش «Amor Fati» كما يقول نيتشه. حب الحياة لدرجة تجاوز الموت، حينها يتساوى الموت والحياة، يصبحان واحدًا نتيجة التخلي عن ذلك الهاجس من الموت، فيصل الأمر للتجرؤ عليه والسخرية منه.
إن تلك الشجاعة في مواجهة الموت هي من جعلت كل المحيطين بطبل على يقين واقتناع كاملين بأن طبل ما زال مستمرًا في العيش، ولم يمت.
مشهد من فيلم «جنة الشياطين»